عندما تصبح قوانين الغابة واقعا…


#جمهوريتي

بقلم/ أحمد عبد المالك

تشير عقارب الساعة إلى التاسعة وبضع دقائق .المكان؛ اتحاد نقابات تشاد. التاريخ؛ 10 / 04 / 2017م. كنا مجموعة من الأصدقاء، القاسم المشترك بيننا هو أننا من حركة ”عيينا“ أو بالأحرى أننا قلنا ”سئمنا“ علنا … كنا جالسين على بعض الكراسي نتجاذب الحديث حول أوضاع جمهوريتي من طرف، ونحاول بطريقة أو بأخرى معرفة الجديد عن صديقنا ”ناجو كاينا“ الناطق الرسمي للحركة الذي تم اعتقاله من قبل جهاز المخابرات من طرف آخر.. فجأة تحاصرنا قوات الـ (GMIP) من كل حدب وصوب؛ حيث لا دخول ولا خروج، ليظهر أمامنا ”#هاشم_ديبي“ غاضبا وكأننا كنا نخطط للإطاحة بقريبه من على العرش الذي يتشبث به قرابة الثلاث عقود…
كان السيد #هاشم_ديبي، شاب في عقده الثالث، فتحت له الدنيا أبوابها، كان يردد لنا في كل مرة، بأنه تعب كثيرا واجتهد أكثر ليصل إلى ماهو عليه، ويضيف أحيانا بأنه لم يعتمد على أحد، فعلينا بالصبر… وفي أحايين أخرى يقول لو كان بيده زمام الأمور لقام بتصفية كل فقير.. ليترك الدنيا للأغنياء فقط: عشان الكل يخدم نفسه بنفسه، ما عجبتو؟!
المهم، صديقنا يريد أن يبدو لطيفا معنا إلا أنه لا يجيد التمثيل. فقبل أن يرسلنا للحبس، أخذنا إلى حيث مكتبه الفخم، وقف أمامنا كأستاذ جامعي يلقي محاضرة؛ يتمايل نحو اليمين ونحو الشمال. سكت لبضع دقائق ينظر إلى أوراقنا الثبوتية، واستنتج أن هؤلاء الذين أمامه ليسوا مجرمين أو ”فاقد عمل دول سااكت ” كما كان يعتقد، ولكن أناس يحملون قضية لطالما آمنوا بها.. سألنا ساخرا: ” إنتو مالا إييتو وا ؟! ” يعني: (لماذا سئمتم؟!)
كان يعتقد بما أننا في عقر دار الشرطة ربما سنغير لهجتنا ونقول مثلا، الفكرة ليست فكرتنا، ” سياسيين بس تشاتشونا – غشونا -… أنحنا خلاص ندمنا ” أو كلام من هذا القبيل.. ولكنه استغرب أن كلاً منا حينما يقف أمامه؛ يتحدث له عن الواقع المعاش بكل جرأة، عن العقبات التي تعيق تقدم هذه الجمهورية، عن غياب العدالة، عن الرشوة المستشرية بين أروقة ودهاليز إداراتنا، عن العدالة الاجتماعية، عن الحكم الرشيد، عن المحسوبية وعن غياب مبدأ الكفاءة …
كان في كل مرة يحاول أن يكون محامي الشيطان، نعم! كان يحاول أن يجمل ويلمع سمعة النظام، ولكن في نهاية المطاف استدرك أن ما نقوله هو الحقيقة وأنه ليس هناك أي قانون يمنعنا من لبس الأحمر لنعبر عن غضبنا بطريقة سلمية، وليست هناك مخالفة أو جرم ارتكبناه حتى ينتهكوا حرمة مقر النقابة ليعتقلونا ونحن على الكراسي! … قالها وبكل صراحة، لو كان الأمر بيدي لأطلقت سراحكم الآن، ولكن ليست بيدي حيلة، لذا سنستضيفكم معنا هنا لبعض الوقت، إلى حين تأتينا أوامر من الجهات العليا؛ لأن مشكلتكم على أعلى مستوى…
أخذوا كل ما يلزم أخذه، وحبسونا في ذاك الجحر الذي لا يصلح حتى لحيوان. كان الوضع داخل الجحر غاية في الصعوبة، رغم أنهم كانوا يمنعون عنا الماء وغيرها من أبسط حقوقنا، إلا أننا حاولنا أن نصمد. كان العرق يتصبب منا بطريقة غريبة لا يصدقها إلا من عايش التجربة يوما، حينها فقط؛ صدقت أستاذ مادة العلوم الذي كان يكرر لنا في وقت ما، أن جسم الإنسان يتكون من ¾ ماء. كان الأوكسجين شبه منعدم في الجحر، فقط شباك مصغر على الباب كنا نقف عنده بالدور لتنشق الهواء.
الهدف من كل هذا العذاب والمعاناة هو تحطيم معنوياتنا وجعلنا نستسلم بسهولة وبوح كل ما بداخلنا أو على الأقل ما يريدون سماعه. أغمي على إثنين منا وبقينا نحن العشرة نقاوم و نساند بعضنا البعض، كان صديقنا ”كوماكوي“ رغم هذه المعاناة إلا أنه كان يجد ما يضحكنا به في كل مرة، أحيانا يتساءل مازحا : حائط منزلي قصير جدا وزوجتي تعيش وحدها، ماذا إذا دخل عليها أحدهم؟!
أحد الشرطة فتح الباب فجأة ليتأكد من وضعنا فاذا به يتفاجأ، كان مستغربا من كمية العرق السائل على الأرض. إنسانيته لم تسمح له بأن يرانا نستمر على هكذا شاكلة، فترك الباب مفتوحا لنستنشق الهواء قليلا، جاء السيد صقر – أو اسم من هكذا قبيل – غاضبا وصرخ في وجهه: ”لماذا تترك لهم الباب مفتوحا؟؟“ وأضاف: ”سي هما قالوا إيينا؟ خلي يموتو…“ الشرطي المسكين لم تكن بيده حيلة، كان يغلق الباب ويعتذر لنا في الوقت نفسه، قال لنا لقد ”سئم“ هو الآخر ولكن ليس هناك ما يمكن فعله ضد ” صقر“ وأمثاله، سيضطر إلى تنفيذ أوامره وطلب منا أن نسامحه… شكرناه على شجاعته، وقلنا له أن الأمر سوف لن يستمر طويلا على هكذا شاكلة. كُثر هم أمثال هذا الشرطي، قابلناهم بمركز الشرطة، وهناك بالمنسقية العامة للشرطة القضائية. كانوا يقولون لنا في أغلب الأحايين : ” أنحنا ذاتا إيينا يخي“
أخذت قضيتنا طابعا آخرا، تداخلت فيها عوامل عدة، وهيئات عديدة، فباتت الناس تتداخل بالمحطات العالمية: إذاعة فرنسا الدولية، فرنسا 24، BBC Afrique وغيرها، ناهيك عن التضامن على شبكات التواصل الاجتماعي .. جل المتداخلين كانوا يطالبون بالإفراج الفوري، ويحملون الحكومة سلامتنا.. هذه الضغوطات جعلت من السيد هاشم يعود لنا في المساء، كان يتحدث مع أحدهم بهدوء عبر الهاتف وكان يدعو السيد في الطرف الآخر بـ (إيكسيلانس)؛ كان السيد ”إيكسيلانس“ مهتما جدا بسلامتنا، إلا أن السيد هاشم طمئنه بكل هدوء، وأضاف وهو ينظر إلينا: ” … في بعض البلدان عندما تكون هناك مظاهرات، تفرق الشرطة الناس بالرصاص، ولكن نحن الحمد لله لم نقم بشيء، وهاهم المعتقلين أمامي بالعافية والسلامة! ”
بعدما نظر إلينا مطولا، أيقن السيد هاشم تماما أن قضاء يوم في هذا الجحر ربما سيودي بحياتنا، وسوف يضيف له مشكلات أخر. فأمر بترحيلنا فورا إلى الشرطة القضائية ليقوموا بالتحقيق معنا هناك، لأن طريقته هنا لم تفلح… هناك في المنسقية العامة للشرطة القضائية، الوضع أفضل بكثير، ربما لأنهم حصلوا على أوامر من أجل معاملتنا بطريقة لائقة. على كل، كانوا يعاملوننا بطريقة أفضل من دار هاشم.
أجروا معنا التحقيقات واحدا واحدا، في خلال يومين، كانوا يدفعون بنا إلى استخدام كلمة ”مظاهرات“ في تصريحنا وبهذا ربما سيجدون ضالتهم، وبعدها ربما سيصبون جام غضبهم علينا بتساؤلاتهم المعتادة: هل كان لديكم تصريح؟ ألم تعلموا بأن الوزير منع تنظيم المظاهرات على الشارع العام؟ وما إلى هنالك من الخزعبلات من أجل تعزيز حجتهم والصاق بعض التهم علينا… ولكننا كنا نفاجئهم في كل مرة بأننا لم نقم بأي تظاهرة على شارع عام، نحن فقط لبسنا الأحمر تعبيرا عن غضبنا من الأمراض التي أنهكت جمهوريتي.. على كل! في اليوم الثالث، أخذونا حيث مكتب المدعي العام، ناقشنا معه قليلا حول تصريحاتنا التي وجدناها أمامه، وبعدها أمر بإقامة جلسة فورية، وبالفعل قاموا بتلك المسرحية الجوفاء ليُطلق سراحنا بعدها ”لصالح الشك“ ! ولغرابة جمهوريتي؛ ففي الوقت الذي قامت فيه الدنيا وأبت أن تقعد ووجهت لنا تهمة: ” مقاومة ضد سلطة الدولة ” وأقيمت لنا تلك المسرحية، يقطع آخرون الطريق على مساجين بصحبة رجال دولة كانوا في طريقهم إلى سجن ”كورو تورو“ ويقتلونهم ”عينك عينك“ ليثبتوا للجميع بأن قوانين الغابة لا تزال واقعا معاشا هنا في جمهوريتي… هل تم القبض عليهم حقا؟ هل وجهت لهم أيضا تهمة ”مقاومة ضد سلطة الدولة؟“ وهل تم حبسهم في ذاك الجحر؟! لا أعتقد ذلك: لأنهم…